رأينا في الجزء الأول نشأة علم الحديث في عصر الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ، وأنه كان قواعد راسخة، ومسلمة عندهم، وتمثل ذلك في بعض الآثار الواردة عنهم.
وفي هذا الجزء نرى نشأة علم المصطلح في عهد التابعين، ثم تابعيهم، ونذكر بعض ما ورد عنهم من آثار، حتى تتبين لنا أصالة هذا المنهج السلفي، الذي تميزت به هذه الأمة، وسار عليه أئمتها من لدنهم، إلى يومنا هذا، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
خلافا لما يتبجح به بعض ممن لم يفقه هذا المصطلح، وصار يقرر القواعد، ويبني عليها أحكاما؛ فظهر لنا منهج جديد غير الذي عرف عند هؤلاء الأفذاذ من العلماء، وسموه بـ"منهج المتقدمين والمتأخرين".
وسأذكر فيما بعد ـ إن يسر الله عز وجل ـ خلاصة هذا المذهب، ورد بعض ما أورده أصحابه من شبه، نقلا عن مشايخنا الكرام.
* التَّحرِّي في الأَخبَار علَى عَهدِ التَّابِعِين(1):
ثمَّ جاء عصر التَّابعين؛ فظهَر جماعةٌ مِن ساداتِهم ممَّن أخَذَ مَسلَك الصَّحابة ـ رضي الله عنهم ـ في التَّحرِّي والتَّيقُّظ في روايَة الحدِيث، منهم:
عليُّ بن الحسين بن علي (ت: 93هـ)، وسعيد بن المسيِّب (ت: 94هـ)، وأبو سَلَمة بنُ عبدالرَّحمن بن عَوف (ت: 94هـ)، وعُبَيدالله بن عبدالله بن عُتبة (ت: 94هـ)، وعُروَة بن الزُّبَير بن العَوَّام (ت: 94هـ)، وأبو بكر بن عبدُالرَّحمن بن الحارِث بن هِشام (ت: 94هـ)، وخارِجةُ بن زَيد بن ثابت (ت: 100هـ)، والقاسِم بن محمَّد بن أبي بكر (ت: 106هـ)، وسالمُ بن عبدِالله بن عمر (ت: 106هـ)، وسُليمانُ بن يَسار (ت: 107هـ).
وكلامُهم في الرُّواة كثيرٌ؛ وذلِك بسبَبِ الفِتن والبِدَع، قال الإِمام محمَّد بن سِيرين ـ رحمه الله ـ: "لم يَكُونوا يَسأَلون عنِ الإِسنَاد، فلمَّا وَقَعت الفِتنَة(2)، قالُوا: سَمُّوا لَنَا رِجَالَكُم؛ فيُنظَرُ فِي أَهلِ السُّنَّة فيُؤخَذُ حدِيثُهم، ويُنظَر فِي أهلِ البِدَع فَلَا يُؤخَذُ عَنهُم"(3).
وقال ـ رحمه الله ـ: "إنَّ هذَا العِلم دِينٌ، فانظُرُوا عمَّن تَأخُذون دِينَكم"(4).
وقال عبدُالله بن المبارَك ـ رحمه الله ـ: "الإِسنادُ [عِندِي] مِن الدِّين، ولَولَا الإِسنادُ لقَالَ مَن شَاءَ مَا شَاءَ، [فإِذا قِيلَ لَه: مَن حَدَّثكَ؟ بَقِي]"(5)، أي حائِرًا.
وقال ـ رحمه الله ـ: "بَينَنا وبَين القَوم القَوائِمُ" يعني: الإسناد(6).
وقد ذَكر الإِمامُ مسلِمٌ ـ رحمه الله ـ بعضَ أقوالهم في مقدِّمة "صحيحه".
* التَّحرِّي في الأَخبَار علَى عَهدِ تابِعِي التَّابِعِين:
ثمَّ أخَذ عن هؤلاء التَّابِعين ساداتُ القَوم مِن تَابِعي التَّابعين، وبَرز النَّقدُ، والكلامُ في الرُّواة جرحًا وتعديلًا، وبذَل أهلُ العِلم فِي ذلِك الزَّمن قُصارَى جُهدِهم لحِمايَة الحدِيث مِن الكَذِب والتَّقوُّل علَى رَسُول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
فظَهَر جماعَةٌ مِن المتكلِّمِين فِي الرِّجال؛ منهم:
محمَّد بن شِهابٍ الزُّهري (ت:124هـ)، ويحيى بن سعِيدٍ الأنصاري (ت: 143هـ)، وهشام بن عُروة (ت: 145هـ)، وسَعد بن إِبراهِيم (ت: 127هـ).
إلَّا أنَّ أكثَرَهم تيقُّظًا، وأَوسَعهم حفظًا، وأَدوَمَهم رِحلةً، وأعلَاهم همَّةً الزُّهريُّ ـ رحمه الله ـ(7).
ثمَّ جاءَ مِن بَعدِهم مِن الأئمَّة؛ فأخَذُوا عَنهم هذَا المَنهَج القَوِيم، ومنهم:
عبدالرَّحمن بن عَمرٍو الأوزاعِيُّ (ت: 157هـ)، وشُعبة بن الحَجَّاج (ت: 160هـ)، وسُفيان بن سعِيد الثَّوريُّ (ت: 161هـ)، وحمَّاد بن سَلَمة (ت: 167هـ)، واللَّيث بن سَعدٍ (ت: 175هـ)، ومالِكُ بن أنسٍ (ت: 179هـ)، وحمَّاد بن زيدٍ (ت: 179هـ)، وسُفيانُ بن عُيَينة (ت: 198هـ).
إلَّا أنَّ مِن أشدِّهم انتِقاءً للسُّنن، وأكثرِهِم مُواظَبةً علَيها، ثَلاثةُ أَنفُس:
مالِكٌ، والثَّوريُّ، وشُعبَة(8).
ثمَّ أخَذ عَن هَؤلاءِ جماعَةٌ؛ مِنهم:
عبدُالله بن المبارَك (ت: 181هـ)، ووَكِيع بن الجَرَّاح (ت: 197هـ)، ويحيى بن سعِيد القَطَّان (ت: 198هـ)، وعبدُالرَّحمن بن مَهدِي (ت: 198هـ)، ومحمَّد بن إِدرِيس الشَّافِعي (ت: 204هـ)، وقد أُثِر عنه كلامٌ فِي هذا البَاب في كِتابه "الرِّسَالَة"؛ فقَد تعرَّض لبعض المسائِل المتعلِّقة بمُصطَلح الحدِيث، وذكر بعضَ القَواعِد مِنه في كتابه "الأمّ"، وألَّف كتابَه "اختلاف الحديث"(9) وهو نوعٌ مِن عُلومِه.
إلَّا أنَّ مِن أكثَرِهم تنقِيرًا عن شَأن المحدِّثين، وأترَكِهم للضُّعفاء والمتروكِين، رجلَان:
يَحيى بن سعِيد القَطَّان، وعبدُالرَّحمن بن مَهدِي(10).
ثمَّ أخَذ عَن هَؤلَاء مَسلَك الحدِيثِ والاِختِبار وانتِقاءِ الرِّجَال فِي الآثَار جماعَةٌ؛ مِنهم:
أحمدُ بن حنبل (ت: 241هـ)، وله "كتابُ العِلَل ومَعرِفَة الرِّجال"(11)، ويحيى بن مَعِين (ت: 233هـ)، وله "كتاب العِلَل في مَعرِفَة الرِّجال"(12)، وعليُّ بن المدِيني (ت: 234هـ)، وله "العِلَل"(13)، وكتبٌ أُخرَى.
وأبو بكر بن أبي شَيبَة (ت: 235هـ)، وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي ـ ابن راهَوَيه ـ (ت: 238هـ)، وعُبَيدالله بن عُمَر القَوارِيرِي (ت: 235هـ)، وزُهَير بن حَربٍ أبو خَيثَمَة (ت: 234هـ).
إلَّا أنَّ أَورَعَهم في الدِّين وأكثَرَهم تفتِيشًا على المتروكِين، وألزَمَهم لهذِه الصِّناعَة على دائِم الأَوقاتِ:
أحمدُ بن حَنبَل، ويحيَى بن مَعِين، وعليُّ بن المَدِيني(14).
يتبع إن شاء الله تعالى.
الحواشي:
=======================
( ) انظر: "كتاب المجروحين": (1/40).
(2) أي: بدعة الرفض والخروج.
(3) "مقدمة مسلم": (1/35).
(4) "مقدمة مسلم": (1/35).
(5) "مقدمة مسلم": (1/36)، والزيادة من "علل الترمذي": (1/56ـ ابن رجب).
(6) "مقدمة مسلم": (1/36).
(7) "كتاب المجروحين": (1/40).
(8) "كتاب المجروحين": (1/41).
(9) وهو مطبوع في آخر كتاب "الأم".
(10) "كتاب المجروحين": (1/49).
(11) طبع بتحقيق الدكتور وصي الله عباس، بدار الخاني ـ الرياض.
(12) وهو قطعة من "العلل" للإمام أحمد برواية ابنه عبدالله، وطبع بتحقيق: أبي عبدالهادي محمد مجقان الجزائري، بدار ابن حزم ـ الرياض.
(13) طبع بتحقيق محمد مصطفى الأعظمي، بالمكتب الإسلامي، ببيروت.
(14) "كتاب المجروحين": (1/50).