حقيقة عبيد الله بن جحش

[هشام بن حسن]

حقيقة عبيد الله بن جحش

هل هو صحابي أو نصراني ؟!

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :
فقد كنت قد قرأت في بعض كتب السير أن عبيد الله بن جحش ( زوج أم حبيبة أم المؤمنين رضي الله عنها قبل أن يتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم ) قد تنصر في الحبشة ومات على الردة ، وقوّى هذا الاعتقاد الشائع أنه لم يذكره من الصحابة من كتب في ذلك كابن عبد البر في الاستيعاب وابن الأثير في أسد الغابة وابن حجر في الإصابة .
ولكن هذا الاعتقاد الجازم صار بعد ذلك شكا إن لم يكن وهما ، وهذا بعد اطلاعي وسماعي لما أثاره بعض طلبة العلم في هذه القضية بأن عبيد الله بن جحش لم تثبت ردته ، فأردت أن أقف بنفسي على بعض النصوص الواردة في هذا الموضوع الغامض ، سواء ما كان منها مثبتا لردته أو ما كان منها نافيا لذلك إما على وجه التصريح أو على وجه التلميح .
فابتداء أنقل نصا لأقدم من وجدته يثبت ردة عبيد الله بن جحش :

* جاء في سيرة ابن إسحاق ( وأحيل على مهذبها : ابن هشام في سيرته 1/ 237 ) : من اعتزل في الجاهلية
قال :" واجتمعت قريش يوما في عيد لهم عند صنم من أصنامهم كانوا يعظمونه وينحرون له ويعكفون عنده ويديرون به ( بمعنى الدوران ) وكان ذلك عيدا لهم في كل سنة يوما فخلص منهم أربعة نفر نجيا ثم قال بعضهم لبعض : تصادقوا وليكتم بعضكم على بعض قالوا : أجل وهم : ورقة بن نوفل ... وعبيد الله بن جحش ... وعثمان بن الحويرث ... وزيد بن عمرو بن نفيل ... إلى أن قال :
وأما عبيد الله بن جحش فأقام على ما هو عليه من الالتباس حتى أسلم ثم هاجر مع المسلمين إلى الحبشة ومعه امرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان مسلمة فلما قدمها تنصر وفارق الإسلام حتى هلك نصرانيا "
ذكرها هكذا بدون إسناد ، وتتابع بعض المؤرخين وأصحاب السير ـ ممن جاء بعده ـ نقل مجريات هذه الواقعة ، ولكن هذا كله لم يأت بسند صحيح ، ومن المعلوم كما قال العراقي في ألفيته في السيرة :
وليعلم الطالب أن السيرا *** تجمع ما صحوما قد أنكرا

وعند إمعان النظر في نصوص أخرى نجد أن هذه الحكاية تخالف ما ورد بأسانيد ثابتة صحيحة منها :
* ما جاء عن زينب بنت أبي سلمة قالت دخلت على أم حبيبة ـ زوج النبي صلى الله عليه وسلم ـ فقالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا " ثم دخلت على زينب بنت جحش حين توفي أخوها فدعت بطيب فمست به ثم قالت : ما لي بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر يقول :" لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا " .

( رواه البخاري في كتاب الجنائز باب إحداد المرأة على غير زوجها برقم 1281 )

وأخوها ههنا هو عبيد الله بن جحش لعدة قرائن ( انظر الفتح لابن حجر عند شرحه لهذا الحديث وما تأوله بعد ذلك 3/ 189) .


* ثم إن الإمام ابن حبان روى في صحيحه " التقاسيم والأنواع " ( 13/ 385 ـ ترتيب ابن بلبان ) برقم 6027
من حديث عائشة رضي الله عنها قالت : هاجر عبيد الله بن جحش بأم حبيبة بنت أبي سفيان وهي امرأته إلى أرض الحبشة فلما قدم أرض الحبشة مرض فلما حضرته الوفاة أوصى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم حبيبة وبعث معها النجاشي شرحبيل بن حسنة " ( قال محققه شعيب الأرناؤوط : إسناده صحيح على شرط البخاري )
فالذي أوصى بأن يتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم هو: عبيد الله بن جحش ، وهذا مما يبعد دعوى ردته إلى النصرانية خصوصا وأنّه من المهاجرين الفارّين بدينهم من مكة إلى أرض الحبشة ، والله أعلم بحقيقة الحال .

وأخيرا يقال : إنّ هذا الموضوع قابل للنقاش والأخذ والرد والتباحث بين طلبة العلم وعلى رأسهم المعتنين بتحقيق الروايات التاريخية وأحداث السيرة النبوية ، والله الموفق والهادي إلى سواء الصراط .

وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلّم .