منتديات التصفية و التربية السلفية  
     

Left Nav الرئيسية التعليمـــات قائمة الأعضاء التقويم البحث مشاركات اليوم اجعل كافة الأقسام مقروءة Right Nav

Left Container Right Container
 
  #1  
قديم 17 May 2015, 02:36 PM
أبو البراء
زائر
 
المشاركات: n/a
افتراضي تلخيص شبهات إسلام بحيري على "صحيح البخاري" والجواب عنها ...(2)


الجواب المفصَّل عمَّا طعن فيه من أحاديث الشَّيخين


الأحاديث الَّتي مثَّل بها وزَعَمَها ضعيفةً أو باطلةً في «صحيح البخاريِّ» وهي مصادمة للعقل أو للقرآن أو للوقائع التَّاريخيَّة فهي نوعان:
النَّوع الأوَّل: منتقَد عند أهل الحديث، سبقوا إلى بيان وجه العلَّة فيه، وهذا النَّوع كما سبق فيه زيادة تثبيت لأحاديث الشَّيخين، كون أئمة الإسلام اعتنوا بأحاديثهما غاية العناية.
ثمَّ إن منها ما فيه ضعفٌ في إسناده، وغالب ذلك إمَّا من شبهة تدليس راويه، أو من أحاديث رجال تُكلِّم فيهم من جهة سوء الحفظ أو تغيُّره، وكل هذا لا يضير ـ في الغالب ـ أحاديثهما، لأنَّ المعلوم من تصرُّفاتهما ـ لا سيَّما البخاريَّ ـ في أحاديث هؤلاء:
أنَّهما يخرجان منها على الانتقاء ما علما صحَّته، وأَمِنَا مداخل الضَّعف فيه.
وتكون أيضًا ممَّا لم ينفرد به أولئك الرُّواة، بل توبعوا عليه.
ثمَّ يخرجانها في الأغلب على سبيل الاستشهاد والاعتضاد والتَّقوية، لا تكو ن أصولًا عندهما.
وربَّما يخرجانها مع صحَّة مخارجها عندهما من وجوه أخر، من أجل معنى يلحظانه، كالعلوِّ مثلًا، وهذا يفعله مسلمٌ ونصَّ عليه، أنَّ الحديث إذا كان عنده من طريقٍ صحيحٍ ثابتةٍ ووجده بعلوٍّ عند شيخٍ فيه كلام، فإنَّه يخرجه من الطَّريق العالي اعتمادًا على أنَّه صحيحٌ ثابتٌ، عند أهل الحديث من أوجه أخرى أقوى وأثبت.
هذا غالب الأحاديث المنتقدة فيهم، يقف النَّقد على سلامة الإسناد وعدمه، ومع هذا كلِّه فقد يقع فيهما ما ينفرد به راوٍ من هؤلاء لا يُتابع عليه، بل يقع فيهما ما هو من أوهام الثِّقات، بأن يتفرَّد به ثقةٌ متقنٌ، ويكون وهمًا منه، فيتوجَّه الضَّعف إلى المتن نفسه، وهذا نادرٌ فيهما جدًّا، وأندر منه أن يكون له علَّة خفيَّة في الإسناد يفوت أحدهما علمها، وفي كلِّ هذا ربَّما يكون الحال على هذا الوجه الَّذي وصفت، وربَّما يُظَّنُّ أنَّه كذلك ولا يكون كذلك، بل يكون الصَّواب فيه مع الشَّيخين في سلامة الحديث من العلَّة والقادح.
وإسلام بحيري لجهله المطبق بالحديث وطريق أهله في التَّعليل لا يفقه مثل هذه المعاني، لكنَّه وقف على أحاديث منتقدة في عند البخاريِّ، وعلى بعضها عند مسلمٍ، وبنى عليها تلك الأحكام الجائرة المتقدِّمة، وسننظر في وجه تنزُّل ما ذكره على ما تقدَّم من أحوال الأحاديث المنتقدة فيهما الَّتي ذكرها في كلامه، حتَّى يُقاس عليها ما وراءها ممَّا هو مثلها او أخف:
المثال الأول: حديث: «خلقَ الله التُّربة يومَ السَّبت...»، يقول: إنَّ مسلمًا أخرجه في «صحيحه» مع أنَّ البخاريَّ قال: إنَّه من كلام كعب الأحبار، وردَّد هنا الشُّبهة القديمة لبعض المستشرقين، وهي أنَّ أبا هريرة رضي الله عنه كان ينسب كلام كعب فيجعله حديثًا مرفوعًا، والحديث المرفوع يجعله من كلام كعب، وهذه قد ردَّ عليها حرَّاس الإسلام، ولكن الكلام عن الحديث الَّذي زعم أنَّ البخاريَّ نصَّ على أنَّه من كلام كعب الأحبار ومع ذلك رواه مسلم في «صحيحه»!
فهذا الحديث ممَّا تكلَّم فيه بعض أهل الحديث لنكارة في متنه، فإنَّ لفظ الحديث في مسلم (2789) من طريق ابن جريج قال: أخبرني إسماعيل بن أميَّة عن أيوب بن خالد عن عبد الله بن رافع مولى أمِّ سلمة عن أبي هريرة قال: أخذ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بيدي فقال: «خلق الله عزَّ وجل التُّربة يوم السَّبت، وخلق فيها الجبالَ يوم الأحد، وخلق الشَّجرَ يوم الاثنين، وخلق المكروهَ يوم الثُّلاثاء، وخلق النُّورَ يوم الأربعاء، وبثَّ فيها الدَّوابَّ يومَ الخميس، وخلق آدمَ عليه السَّلام بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق، في آخر ساعة من ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى اللَّيل».
فهذا الحديث قد تكلَّم فيه أهل العلم، وانتبهوا إلى ما فيه من الإشكال، وهو من وجهين:
الأوَّل: أنَّه لم يذكر خلق السَّماء في السِّتَّة أيَّام الَّتي حصل فيها الخلق، ثمَّ إنَّ الَّذي في القرآن أنَّ أربعة أيَّام من السِّتَّة كانت لخلق الأرض وتقدير أقواتها فيها، بخلاف ما في هذا الحديث من كون ذلك حصل في ستٍّ.
الثَّاني: أنَّه ذُكر فيه أنَّ الخلق كان في سبعة أيَّام، مع أنَّ الَّذي في القرآن ـ في مواضعَ ـ أنَّه في ستَّة أيَّام.
فمن أجل هذا طعن فيه عليُّ بن المديني، وقال فيماحكاه البيهقي في «الأسماء والصِّفات» (2/256): «ما أرى إسماعيل بن أميَّة أخذ هذا إلَّا من إبراهيم بن أبي يحيى»، وقال البخاريُّ في «التَّاريخ الكبير» (1/413-414) بعد أن ساق سند الحديث: «وقال بعضهم: عن أبي هريرة عن كعبٍ، وهو أصحُّ».
وفي كلٍّ من القولين براءة لأبي هريرة ﭬ من عهدة الحديث، لأنَّه على قول ابن المديني الآفة فيه من إبراهيم بن أبي يحيى، وعلى قول البخاريِّ الآفة ممَّن أخطأ في رفع الحديث فأدرج فيه ذكر النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بدل: «عن كعبٍ».
أمَّا المجرم بحيري فمع أنَّه ذكر كلام البخاري إلَّا أنَّه فسَّره لجهله أو لهوى في نفسه بأنَّ أبا هريرة هو الَّذي قلَبه، وهو متَّبع في هذا لأبي ريَّة عدوِّ السُّنَّة النَّبويَّة، فإنَّه طعن في أبي هريرة بسبب هذا الحديث، وتحدَّى علماء العالم أن يخرجوه من هذه الهُوَّة الَّتي زعم أنَّه وقع فيها!! فتابعه البحيريُّ، وانظر كتاب «دفاع عن السُّنة» لمحمَّد أبو شهبة (ص134)، فقد أحسن الجواب لأبي ريَّة وأطاب.
يبقى الكلام في تحقيق صحَّة الطَّعن من عدمه، والأرجح أنَّ الصَّواب مع مسلمٍ لأنَّ الحديث إسنادُه ظاهرُ الصِّحَّة، متَّصلٌ بسماع العدول بعضهم من بعض، ولم يأت من طعن فيه بحجَّة يلزم المصير إليها، وقد صحَّحه مسلم بن الحجَّاج وحسبك به جلالةً، ومن طعن فيه فلنكارة المتن عنده، فإذا زال ما يُظنُّ فيه من النَّكارة فلا وجه للطَّعن، ولقد تكلَّم الشَّيخ الألمعي عبد الرَّحمن المعلميِّ عن دفعها عن متن الحديث بأحسن كلامٍ، ومن ذلك قوله رحمه الله بعد كلامٍ: «فمدار الشَّكِّ في هذا الحديث على الاستنكار، وقد يُجاب عنه بما يأتي:
أمَّا الوجه الأوَّل فيُجاب عنه بأنَّ الحديث وإن لم ينصَّ على خلق السَّماء فقد أشار إليه بذكره في اليوم الخامس النُّورَ وفي السَّادس الدَّوابَّ، وحياةُ الدَّوابِّ محتاجة إلى الحرارة، والنُّور والحرارة مصدرهما الأجرام السَّماوية، والَّذي فيه أنَّ خلق الأرض نفسها كان في أربعة أيَّام كما في القرآن، والقرآن إذ ذكر خلق الأرض في أربعة أيَّام لم يذكر ما يدلُّ على أنَّ مِن جملةِ ذلك خلق النُّور والدَّواب، وإذ ذَكَر خلق السَّماء في يومين لم يذكر ما يدلُّ على أنَّه في أثناء ذلك لم يُحدث في الأرض شيئًا، والمعقول أنَّها بعد تمام خلقها أخذت في التَّطوُّر بما أودعه الله تعالى فيها، والله سبحانه لا يشغله شأن عن شأن.
ويجاب عن الوجه الثَّاني بأنَّه ليس في هذا الحديث أنَّه خلق في اليوم السَّابع غير آدم، وليس في القرآن ما يدلُّ على أنَّ خلق آدم كان في الأيام السِّتَّة، بل هذا معلوم البطلان، وفي آيات خلق آدم أوائل البقرة وبعض الآثار ما يُؤخذ منه أنَّه قد كان في الأرض عُمَّارٌ قبل آدم عاشوا فيها دهرًا، فهذا يساعد القول بأنَّ خلق آدم متأخِّر بمدَّة عن خلق السَّموات والأرض، فتدبَّر الآيات والحديث على ضوء هذا البيان يتَّضح لك إن شاء أنَّدعوى مخالفة هذا الحديث لظاهر القرآن قد اندفعت، ولله الحمد».
فإذا ثبت أن لا نكارة في الحديث سقط طعن من طعن فيه، لأنَّهم تعلَّقوا بأمور خلاف الظَّاهر لمَّا اعتقدوا النَّكارة فيه كما هو معلوم من تصرُّف أهل الحديث في مثل هذا الموطن، وحاصل الجواب من جهة الإسناد أنَّ كلام ابن المديني يَرِدُ عليه أنَّ إسماعيل بن أميَّة ثقةٌ عندهم، وليس بمدلِّس، [انظر: «الأنوار الكاشفة» (ص262)، و«السِّلسلة الصَّحيحة» (4/449)].
وأمَّا البخاريُّ فلم يسمِّ من خالفَ عبد الله بن رافع حتَّى يُنظر في حاله ودرجته ووثاقته، ثمَّ إنَّ المنقول عن كعب الأحبار أنَّ بدء الخلق كان يوم الأحد لا يوم السَّبت، قال المعلِّمي (263): «فهذا يدفع أن يكون ما في الحديث من قول كعب».
فهذا يبيِّن أنَّ الحجَّة لمسلمٍ في تصحيح الحديث، ولو قيل إنَّ الصَّواب مع غيره فَلِتَصحيح الحديث وجهٌ قويٌّ، ليس كما أراد البحيري أن يُظهر أنَّه غلطٌ واضح من أبي هريرة، مرَّ على مسلمٍ فلم ينتبه له، ليصل بذلك إلى غرضه في التَّهوين من شأن الصِّناعة الحديثيَّة، ويضع من قدر الصَّحيحين وتثبُّت صاحبَيهما، واتِّفاق الأمَّة على تلقِّي أحاديثهما بالقبول.
المثال الثَّاني: حديث شريكٍ في الإسراء، وهو حديثٌ أخرجه البخاريُّ في «صحيحه» في موضعين (3570) (7517) من طريق سليمان بن بلال عن شريك بن عبد الله قال: سمعتُ أنس بن مالكٍ، فذكر حديث الإسراء بطوله، وفيه من هذا الوجه ألفاظٌ لم ترد في الرِّوايات الصَّحيحة الأخرى، ولعلَّه لهذا أخرجه مسلم في «صحيحه» أيضًا (162) من طريق سليمان بن بلال فلم يسُق لفظه، وقال: «وقدَّم شيئًا وأخَّر، وزاد ونقص»، فحمد العلماء صنيعَه هذا وأثنوا عليه به، لأنَّ شريكًا قد اضطرب في هذا الحديث وأتى فيه بألفاظٍ غريبةٍ منكرةٍ، قال عبد الحقِّ في «الجمع بين الصَّحيحين» بعد أن ذكر رواية شريكٍ هذه: «قد زاد فيه زيادةً مجهولةً، وأتى فيه بألفاظٍ غير معروفةٍ، وقد روى حديثَ الإسراء جماعةٌ من الحفَّاظ المتقنين والأئمَّة المشهورين، كابن شهابٍ وثابتٍ البُناني وقتادة، فلم يأت أحدٌ منهم بما أتى به شريكٌ، وشريكٌ ليس بالحافظ عند أهل الحديث»، وانظر مستزيدًا «زاد المعاد» (3/78)، و«تفسير ابن كثير» (5/7)، وفتح الباري (13/404، 405).
الحاصل أنَّ شريكًا مع ثقته وجلالته وتوسُّعه في الرِّواية وكونه أهلًا لأن يُعتمد عليه إلَّا أنَّه كان يُخطئ بعضَ الشَّيء، فلذلك ليَّنه ابن معين في إحدى روايتيْ الدُّوري (748-449)، وقال ابن الجارود: «ليس به بأس وليس بالقويِّ، وكان يحيى بن سعيد لا يحدِّث عنه»، نقله مغلطاي في «إكمال تهذيب الكمال» (6/253)، وقال ابن حبَّان في «الثِّقات» (4/360): «ربَّما أخطأ»، وقد جاء في هذا الحديث بما لم يأت به غيره، فلهذا فإنَّ حديثه هذا زائلٌ عن أن يكون في صحيح الحديث، وهو من الأمثلة النَّادرة لِمَا سبق من كون الرَّاوي المتكلَّم في حفظه ينفرد ببعض الأشياء لا يُتابع عليها، ومع ذلك يُخرَّج حديثه في «الصَّحيح»، ولعلَّ لأبي عبد الله البخاريِّ وجهًا في تصحيحه لم يفصح عنه، أمَّا بحسب ما عندنا فيه فالصَّواب عدم الاعتماد على ما جاء به شريكٌ فيه، وحسب البخاريِّ صحَّةً أن يُنتَقد عليه الحديث بعد الحديث، ثمَّ لا يفوتُ ذلك علماءَ الإسلام، بل يتعقَّبونه فيه ونبِّهون على ما أغفله ـ ولله الحمد والمنَّة ـ وإن خَزِيَ البحيري.
المثال الثَّالث: وذكر حديث الإفك، وأنَّه في «الصَّحيحين» مع أنَّ فيه حكاية كلامٍ لسعد بن معاذ، وقد كان توفِّي قبل هذه الحادثة، يقول: فهذا في «صحيح البخاريِّ» وهو مخالفٌ للتَّاريخ، ومثلُه في مخالفة التَّاريخ:
المثال الرَّابع: وهو حديث أبي سفيان، في «صحيح مسلمٍ»، ففيه أنَّ أبا سفيان قال للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بعد أن أسلم في فتح مكَّة: «عندي أحسن العرب وأجمله، أزوِّجكها... »، مع أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم كان تزوَّجها قبل ذلك بزمنٍ، فهذا مثالٌ آخر لما يخالف التَّاريخ وهو في الصَّحيح.
والجواب أن يقال:
أمَّا حديث الإفك فأخرجه صاحبا «الصَّحيح» وفيه أنَّ سعد بن معاذ الأنصاري رضي الله عنه قام فقال للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «أنا أعذرك منه يا رسول الله! إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك»، قال ابن القيِّم في «زاد المعاد» (3/265):«وقد أشكل هذا على كثيرٍ من أهل العلم، فإنَّ سعد بن معاذ لا يختلف أحدٌ من أهل العلم أنَّه توفِّي عقيب حكمه في بني قريظة عقيب الخندق، وذلك سنة خمسٍ على الصَّحيح، وحديث الإفك لا شكَّ أنَّه في غزوة بني المصطلق هذه، وهي غزوة المُريسيع، والجمهور عندهم أنَّها كانت بعد الخندق سنة ستٍّ..»، ثمَّ ذكر أجوبة أهل العلم في ذلك بقريبٍ ممَّا ذكره القاضي عياضٌ في «إكمال المعلم» (8/301-303) فإنَّه أبو عذرة هذا الإشكال وجوابه، واختار ابن القيم ما صوَّبه ابن حزمٍ من أنَّ قائل ذلك هو أسيد بن حضير لا سعد بن معاذ، وهو الَّذي ذكره ابن إسحاق عن الزُّهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن عائشة.
وقد حكى البخاريُّ في «صحيحه» (5/115ـ السُّلطانيَّة) في باب غزوة المُريسيع الَّتي وقعت فيها قصَّة الإفك عن موسى بن عقبة أنَّها كانت سنة أربع، فلعلَّه لهذا مشَّى الحديث ولم يستشكل ذكرَ سعدٍ فيه لأنَّه يَحتَمِلُ أن تكون الواقعة وقعت قبل موت سعدِ بن معاذٍ كما ذهب إليه القاضي إسماعيلُ بن إسحاق وغيره، وقد عُرف من عادة البخاريِّ أنَّه إن أخرج حديثًا وَهِم بعضُ الرُّواة في شيءٍ منه فإنَّه يُتبعه بالرِّوايات الَّتي تبيِّن الوهم فيه، وله من ذلك في «صحيحه» ما ليس لمسلمٍ، قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله في «فتاويه» (17/236-237): «والبخاريُّ سَلِم من مثل هذا، فإنَّه إذا وقع في بعض الرِّوايات غلطٌ ذكر الرِّوايات المحفوظة الَّتي تُبيِّن غلط الغالط، فإنَّه كان أعرف بالحديث وعلله وأفقه في معانيه من مسلمٍ ونحوه»، وقال نحوًا من هذا أيضًا في «التَّوسُّل والوسيلة» (فقرة: 501).
فاتَّضح أنَّ الحديث صحيحٌ وأنَّ هذا النَّوع من الاختلاف أو الوهم في بعض أجزاء قصَّةٍ، من تسميةِ رجلٍ فيها أو نحو ذلك، لا يضرُّ الحديث شيئًا ما دام ثابتًا برواية الثِّقات، وقد ذكروا نظيرَ هذا في الكلام على قصَّة جابر وابتياع النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم منه جمَلَه، فأصلُ القصَّة صحيحٌ ثابتٌ من أوجه، واختلاف الرُّواة في الثَّمن الَّذي وقع به البيع لا يؤثِّر في الحديث ضعفًا، لأنَّ الغرض من القصَّة قد ضبطه الرُّواة واتَّفقوا عليه، وكذلك يقال هنا، فالنَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «من يعذرني من رجل قد بلغ أذاه في أهل بيتي»؟ فقام رجلٌ من الانصار، أُسَيدُ بن حُضَيرٍ أو غيره، فأجاب بما أجاب به، فلا أثر لهذا في ضعف الحديث بعد اتِّفاق الرُّواة على أصل الواقعة، وهو ممَّا يدلُّ على أنَّ الوهم في الرِّواية وإن كان خفيًّا وغير مؤثِّر فإنَّ أهل العلم به ذَوُو بصرٍ، وليسوا كما زعم البحيري أصَّلوا نظريًّا لقبول الأحاديث أمورًا صعبة ثمَّ لم يلتزموها في الواقع، بل قد التزموها على غاية ما ينبغي أن يكون أو فوق ذلك، ولهم من الفهم في ذلك ما ليس لغيرهم، ومن فهمهم فيه أنَّ القصَّة قد يضبطها الثِّقات ولا يضبطون بعضَ تفاصيلها الَّتي لا تنبني عليها أحكام أو آثار فلا يضرُّ ذلك الحديث شيئًا.
وكذلك القول في حديث أبي سفيان سواءً بسواء، هو في «صحيح مسلمٍ» (2501) من عكرمة بن عمَّار عن أبي زميل الحنفي عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال: «كان المسلمون لا ينظرون إلى أبي سفيان ولا يقاعدونه، فقال للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «يا نبيَّ الله! ثلاثٌ أعطِنِيهنَّ»، قال: «نعم» قال: «عندي أحسن العرب وأجمله، أمُّ حبيبة بنت أبي سفيان، أزوِّجكها»، قال: «نعم» قال: «ومعاوية، تجعله كاتبًا بين يديك»، قال: «نعم» قال: «وتُؤمِّرُني حتَّى أقاتل الكفَّار كما كنتُ أقاتل المسلمين، قال: «نعم»، فهذا من أشكل ما وقع في «الصَّحيح» فإنَّ المعلوم عند أهل السِّير والتَّاريخ الَّذي لا يختلفون فيه ـ وهو في دواوين السُّنَّة ـ أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم تزوَّج أمَّ حبيبة وهي بالحبشة قبل الهجرة، فكيف يقول أبو سفيان بعد ذلك «أزوِّجكها»! هذا ما لا يكون، ولا يصحُّ حمله على وجه من الأوجه، ولهذا قال أبو محمَّد ابن حزم: «إنَّه حديثٌ موضوعٌ»! قال ذلك لمَّا استغلقت عليه أوجه تسويغ ما في الحديث، وقد قيل فيه غير ذلك من المحامل والأوجه، وكلُّ ما قيل فيه فهو معلومُ البطلان، حتَّى قال ابن القيِّم رحمه الله في «زاد المعاد» (1/111): «إنَّها من رُبْد الصُّدور لا من زُبْدها».
ثمَّ إنَّه ـ أعني ابن القيِّم ـ اختارَ نحوًا ممَّا تقدَّم في الحديث السَّابق من أنَّ ذكر أمِّ حبيبة فيه وهمٌ من بعض الرُّواة، ولعلَّ الصَّواب أنَّه سأله أن يزوِّجه أختَها رملة، قال ابن القيِّم: «ولا يبعد خفاء التَّحريم للجمع عليه، فقد خفي ذلك على ابنته وهي أفقه منه وأعلم، حين قالت لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «هل لك في أختي بنت أبي سفيان؟ فقال: «أفعل ماذا»؟ قالت: «تنكحها»، قال: «أوتحبِّين ذلك»؟ قالت: «لست لك بمخلية، وأحبُّ من شركني في الخير أختي»، قال: «فإنَّها لا تحلُّ لي»، فهذه هي الَّتي عرضها أبو سفيان على النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فسمَّاها الرَّاوي من عنده أم حبيبة».
قال ابن القيِّم: «وقيل: بل كانت كنيتها أيضًا أمَّ حبيبة، وهذا الجواب حسنٌ لولا قوله في الحديث: «فأعطاه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ما سأل»، فيقال حينئذ: هذه اللَّفظة وهمٌ من الرَّاوي، فإنَّه أعطاه بعض ما سأل، فقال الرَّاوي: أعطاه ما سأل، أو أطلقها اتِّكالًا على فهم المخاطب أنَّه أعطاه ما يجوز إعطاؤه ممَّا سأل، والله أعلم».
قلت: ولا يخفى ما في حمله على هذا الوجه من التَّكلُّف أيضًا، وأحسن شيء فيه أنَّ هذا الحديث وهمٌ راويه عكرمة بن عمار، فهو وإن كان ثقةً إلَّا أنَّ له بعض الوهم والخطأ والاضطراب، ولهذا قال ابن الجوزي في «مشكل الصَّحيحين» (2/463): «وفي هذا الحديث وهمٌ من بعض الرُّواة لا شكَّ فيه ولا تردُّد، وقد اتَّهموا به عكرمة بن عمَّار راوي الحديث..».
وقوله: «اتَّهموا به» أي: ألصقوا الوهم فيه به، وهو معنى قول ابن حزمٍ فيما حكاه عنه بعدُ: «والآفة فيه من عكرمة بن عمَّار».
وقد قال الحافظ الذَّهبيُّ في ترجمته من «سير أعلام النُّبلاء» (7/137): «استشهد به البخاريُّ ولم يحتجَّ به، واحتجَّ به مسلمٌ يسيرًا، وأكثر له من الشَّواهد، قال الحاكم أبو عبد الله: «أكثر مسلمٌ الاستشهادَ بعكرمة بن عمَّار»
قال الذَّهبي: «قلت: قد ساق له مسلمٌ في الأصول حديثًا منكرًا، وهو الَّذي يرويه عن سماك الحنفي عن ابن عبَّاس في الأمور الثَّلاثة الَّتي التمسها أبو سفيان من النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم».
فقد ظهر بهذا أنَّ هذا النَّوع من الحديث الواقع في «الصَّحيحين» قد انتقده الأئمَّة وبيَّنوا ما فيه من الوهم وإن لم يكن مؤثِّرًا في أصل الحديث، فكيف لو كان مخالفًا للقرآن أو للعقل أو للتَّاريخ كما يزعم ذاك المأفون!
وقد كان ينبغي إذ وقف على هذه الأحاديث أن تكون عنده ـ لو صدَق النَّظر وتجرَّد من الهوى ـ زيادةً في قوَّة «الصَّحيحين»، ولكنَّه أخذ منها أنَّه هو وأمثاله ممَّن ضاقت أعطانهم بكثيرٍ من أحكام الشَّرع وعقائده المبثوثة في أثناء «الصَّحيحين» يمكنهم بطريقةِ البحث الجديدة كالطِّبِّ والعلم الَّذي اكتسبه النَّاس في هذا العصر ـ وبدون أن يرجع للقدامى كما زَعم ـ أن يقول: «إنَّ البخاريَّ أخطأ في حديث كذا، ولا يمكن أن يكون صحيحًا مهما كان السَّندُ صادقًا، وأن الحديث خطأٌ لا يمكن أن يُقبل كدينٍ»!
فسبحان من جعل كتابه وشرعه هدى للمؤمنين، وضلالًا وعمًى على الكافرين والمنافقين والضَّالين!

يتبع بالمقالة الثَّالثة وأوَّلها:
النَّوع الثَّاني من الأحاديث الَّتي مثَّل بها، وهو ما انتقده هو أو بعض المعاصرين ولم ينتقده مَن قبلهم من الأئمَّة.


التعديل الأخير تم بواسطة أبو البراء ; 18 May 2015 الساعة 09:27 AM سبب آخر: رواية الدوري = إحدى روايتَيْ الدوري
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 17 May 2015, 02:56 PM
أبو أنس يعقوب الجزائري أبو أنس يعقوب الجزائري غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
المشاركات: 382
افتراضي

جزاكم الله خيرا على ما تكتبون أخي خالد.
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 17 May 2015, 05:49 PM
عبد القادر شكيمة عبد القادر شكيمة غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Feb 2015
الدولة: الجزائر ولاية الوادي دائرة المقرن
المشاركات: 315
افتراضي

بارك الله فيك شيخ خالد وجعل ذبك عن الصحيحين في موازين حسناتك.
فلو أن بحيري وأمثاله وأشباهه صلحت نياتهم وتعلموا شيئا من علم الحديث ودرسوا تراجم الشيخين وعرفوا عمق فهمهما وقوة فقههما ما اجترأوا على ما اجترأوا عليه، ولكن الله سبحانه لمّا يشاء أن يكشف أحدا جعل لذلك سببا.

التعديل الأخير تم بواسطة عبد القادر شكيمة ; 17 May 2015 الساعة 08:25 PM
رد مع اقتباس
  #4  
قديم 18 May 2015, 12:48 AM
فتحي إدريس
زائر
 
المشاركات: n/a
افتراضي

جزاك الله خيرًا شيخ خالد على هذه السِّلسلة في الرَّد على شبهات البحيريِّ بأسلوب علميٍّ رزين، ومن كثرة الفوائد المنبثَّة في المقال كدتُ أنسى أنَّه ردٌّ على هذا المُتطاول؛ فبارك الله في كتاباتك ونفع الله بك.
رد مع اقتباس
  #5  
قديم 18 May 2015, 10:08 AM
أبو عبد السلام جابر البسكري أبو عبد السلام جابر البسكري غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Feb 2014
المشاركات: 1,229
إرسال رسالة عبر Skype إلى أبو عبد السلام جابر البسكري
افتراضي

جزاك الله خيرًا شيخنا خالد حمودة وبارك في علمك وعملك وثقل به موازينك ، وجعلك ذخرا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، ونسأل الله أن يذب عن وجهك النار كما دافعت عن الأئمة الأخيار .
واصل وفقك الله....
رد مع اقتباس
  #6  
قديم 20 May 2015, 09:49 AM
أبو الأشبال الأثري عبد الحكيم أبو الأشبال الأثري عبد الحكيم غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Oct 2012
الدولة: الجزائر
المشاركات: 46
افتراضي

أخي خالد جزاك الله خيرا و نحن في انتظار المقالة الثالثة
رد مع اقتباس
  #7  
قديم 20 May 2015, 11:15 PM
أبو أنس محمد البليدي أبو أنس محمد البليدي غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: May 2012
المشاركات: 68
افتراضي

جزاك الله خيرًا
رد مع اقتباس
  #8  
قديم 28 May 2015, 05:58 PM
أبو عبد الله طارق أبو عبد الله طارق غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Jul 2014
المشاركات: 123
افتراضي

بارك الله فيك أخي خالد وجزاك الله كل خير
الله يكرمك
رد مع اقتباس
  #9  
قديم 29 May 2015, 06:47 PM
أبوعبد الرحمن صدام حسين شبل أبوعبد الرحمن صدام حسين شبل غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: May 2012
الدولة: ولاية سطيف/الجزائر
المشاركات: 291
افتراضي

جزاك الله خيرا أخي الشيخ خالد على رد هذه الشّبه التي يلقيها أمثال هؤلاء..
رحم الله علماء الأمة الذي هم في الحقيقة سراج البلاد و منار البلاد
قال الشيخ عبد الرزاق البدر -حفظه الله- أثناء شرحة لحديث سبع يجري للعبد أجرهن و هو في قبره
و عند قوله -صلى الله عليه وسلم- "..من علّم علما" فذكر فضل العلم إلى أن قال-حفظه الله-:...وهنا يتبينُ عظمُ فضلِ العلماء الناصحين والدعاة المخلصين، الذين هم في الحقيقة سراج العباد، ومنار البلاد، وقوام الأمة، وينابيع الحكمة، حياتهم غنيمة، وموتهم مصيبة، فهم يعلمون الجاهل، ويذكرون الغافل، ويرشدون الضال، لا يتوقع لهم بائقة، ولا يخاف منهم غائلة، وعندما يموت الواحد منهم تبقى علومه بين الناس موروثة، ومؤلفاته وأقواله بينهم متداولة، منها يفيدون، وعنها يأخذون، وهو في قبره تتوالى عليه الأجور، ويتتابع عليه الثواب، وقديماً كانوا يقولون يموت العالم ويبقى كتابه.."

رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
منهج, ردود

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


Powered by vBulletin, Copyright ©2000 - 2017, Jelsoft Enterprises Ltd
Salafi Tasfia & Tarbia Forums 2007-2013