ومَن نظر في سِيَر هذه الفئة الناجية والطائفة المنصورة يقف على العجب العجاب مما ذكره العلماء في فضلهم وشرفهم وصبرهم على تبليغ سنة نبيِّهم، فلم تغررهم زهرةُ الحياة الدنيا ولا بهجتُها، أفنوا أعمارهم في خدمة الدين بإخلاص، وأيقنوا أنَّ العلمَ لا يُنال براحة الأجساد والأجسام بل الرحلة والسهر شعارهم والكتابة والطلب دثارهم.
ذكر الذهبي عن الإمام ابن أبي حاتم رحمه الله وهو ابن محدث ومن كبار محدثي زمانه أنه قال: «كنا بمصر سبعة أشهر لم نأكل فيها مَرَقَة، نهارُنا ندور على الشيوخ، وبالليل ننسخ ونقابل (أي وقتهم كله في العلم والطلب)، فأتينا يوما أنا ورفيق لي شيخا، فقالوا هو عليل (أي مريض)، فرأيت سمكة أعجبتنا فاشتريناها، فلما صِرنا إلى البيت حَضر وقتُ مجلس بعض الشيوخ فمضينا، فلم تزل السمكة ثلاثةَ أيام وكاد أن يَنْضَى فأكلناه نيِّئا لم نتفرغ نشويه.
ثم قال رحمه الله: لا يُستطاع العلمُ براحة الجسد».
فبمثل هؤلاء الأعلام كالإمام سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والزهري والإمام مالك والشافعي وأحمد والبخاري ومسلم من علماء الحديث والقرآن والفقه والبيان حفظ الله تعالى سنَّة رسول الله سيد الأنام صلى الله عليه وسلم، فصنفوا المصنفات التي سارت بها الركبان، ووصلت مشارق الأرض ومغارب البلدان، وأخذتها الأمَّة جيلا بعد جيل، كالموطأ والصحيحين وغيرها من كتب الحديث والسنن والفقه والتفسير، وانتفع بها علماء الدين ودعوا الناس إلى عبادة رب العالمين بالبرهان والدليل، فلذلك حفظ الله حقَّهم على عباده وأمرهم برعاية مكانتهم ومنزلتهم، فلا يُذكرون إلا بالخير والثناء فهم أئمة الهدى ومصابيح الدجى، وفيهم يصدق قول الرسول المجتبى عليه صلوات ربي وسلامه: «... وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ، وَمَنْ فِي الْأَرْضِ، وَالْحِيتَانُ فِي جَوْفِ الْمَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ، كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا، وَلَا دِرْهَمًا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ».
وروى أحمد وغيره عن عبادة بن الصامت أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس منَّا مَن لم يجلَّ كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه».
لكنَّ الناس نسوا فضلهم وتناسوه، فظهر الطعن فيهم وفيما رووه، وهذا مصداق ما روى أبو داود في السنن وأحمد في المسند وغيرهما عن الْمِقْدَامَ بْنَ مَعْدِي كَرِبَ، قال: «حَرَّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ أَشْيَاءَ، ثُمَّ قَالَ: يُوشِكُ أَحَدُكُمْ أَنْ يُكَذِّبَنِي وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ يُحَدَّثُ بِحَدِيثِي، فَيَقُولُ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللهِ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَلَالٍ اسْتَحْلَلْنَاهُ، وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ، أَلَا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ مَا حَرَّمَ اللهُ».
وفي رواية وصف الرادَّ لسنته برجل شبعان متكئ على أريكته، قال الإمام البيهقي رحمه الله: «فَكَانَ كَمَا أَخْبَرَ وَبِهِ ابْتَدَعَ مَنِ ابْتَدَعَ وَظَهَرَ الضَّرَرُ».
ظهر الضرر في أناس لم يفقهوا العلم الذي أرسل به محمد صلى الله عليه وسلم ولم يعرفوا فضل علماء الأمة، ولم يقفوا على ما تفتخر به هذه الملة على غيرها من الملل والنحل بحفظ الله عز وجل لها دينها، وحفظِهم لسنة نبيهم عليه الصلاة والسلام، وصنَّفوا في ذلك الكتب العظام التي عليها مدار الإسلام، فبَدَل أن يُذكروا بالخير والفضل، ويُثنى على ما قدَّموه، ويُتَّبَع سبيلهم الذي انتهجوه، تُوَجَّهُ لهم سهام الطعن وبذيءُ الكلام مِن هؤلاء اللئام الذين تربوا على موائد وأرائك الكفرة الفاجرين وتغذوا بأفكارهم وانبسطوا لطريقة عيشهم، فمنهم مَن تجرَّأ وأعلن الكفر والإلحاد وطعن في كتاب رب العباد.
ومنهم مَن اتخذ الطعنَ في سنة النبيِّ صلى الله عليه وسلم وعلمائها ورواتها وحملتها سلَّما للطعن في الدين والإسلام إرضاء لمن هو تحت رحمتهم من اليهود والنصار والكفار، ولا يعلم المسكين أنَّ الطعن في حملة الدِّين ورواةِ الآثار طعنٌ في الإسلام ورسولِ المسلمين، فإنا لله وإنا إليه راجعون على عِظم المصيبة بشدِّة مُطالبة الكفار وأذناب الكفار لهذه الملة الزهراء والسنة الغرَّاء.
وليس العجب أن يتكلم أمثالُ هؤلاء الجهلة والمغرضين والمهزومين والمهزوزين في دين الله بالسوء والبهتان، فهذا كان في زمنه عليه الصلاة والسلام وسائر الأزمان، لكنَّ العجبَ كلَّ العجب أن تُنشر مثلُ هذه الأحقادِ والسخافات والتفاهات في بلد الإسلام ويتلقَّفُها أهل الإعلام الذين كانوا بالأمس القريب ينادون بنصرة الحبيب عليه الصلاة والسلام ويتباكون لذلك، واليوم ينشرون الإساءةَ له ولدينه والطعنَ في سنته وهديه والكلامَ في حملة علمه وورثة أمره، فالجاهل مَن يظنُّ أنَ الدفاع هو دفاع عن اسمه وشخصه فقط، دون الدفاع عن أقواله وأفعاله وهديه وحكمته، ولولا شرور وسائل الإعلام لما ظهر لهؤلاء النَّكرات الرويبضات قول ولا بهتان، لأنَّ سبيلَهم واضح للعيان أنهم لا يريدون إلا اتباعَ سبيلِ الكفار وإرضائهم والسير على طريقهم ﴿وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِير﴾.
ويصدق فيهم قول الإمام أبي زرعة الرازي رحمه الله فيمَن طعن في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: «إِذَا رَأَيْتَ الرَّجُلَ يَنْتَقِصُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَّ فَاعْلَمْ أَنَّهُ زِنْدِيقٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَّ عِنْدَنَا حَقٌّ وَالْقُرْآنَ حَقٌّ وَإِنَّمَا أَدَّى إِلَيْنَا هَذَا الْقُرْآنَ وَالسُّنَنَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَّ وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ أَنْ يجَرحُوا شُهُودَنَا لِيُبْطِلُوا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، وَالْجَرْحُ بِهِمْ أَوْلَى وَهُمْ زَنَادِقَةٌ».
فعلماء الإسلام ورواةُ الأخبار هم مَن أدى إلينا سنةَ نبيِّنا عليه الصلاة والسلام، فالكلام فيهم وانتقاصُهم طعنٌ في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وإبطال لدين الله، والله متمٌّ نوره ولو كره الكافرون.