رسالة: جواب سؤال عن سوء مقال للعلامة السلفي عبد الحميد بن باديس رحمه الله
رسالة جواب سؤال عن سوء مقال
للعلامة السلفي عبد الحميد بن باديس رحمه الله
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى لله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما
سؤال:
ما قول ساداتنا العلماء- رضي الله عنهم- وأدام النفع بهم في رجل يزعم أنه قطب الزمان الفرد، وأن الكل دونه، وأنه العارف المسلك، إلى غير ذلك من أعلى صفات العارفين، وأسمى درجات الكاملين، ثم يقول مخاطبا للنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- بما نصه:
إن مت بالشوق منكد *** ما عذر ينجيك
إن تبق في هجري زائد *** للمولى ندعيك
من هو بالملك موحد *** ينظر في أمرك
عبس بالقول تساعد *** ما نرجوه فيك
ولما قيل له في هذه الأبيات قال: ألسن المحبين أعجمية. فهل يعد خطابه هذا سوء أدب وهل تجوز مخاطبة النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- بمثله، وهل صدور مثله من شأن العارفين الكاملين، وهل يقبل منه ما اعتذر به من عجمة ألسن المحبين، أفيدونا مأجورين إن شاء الله تعالى من رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. انتهى.
الجواب
[الحَمْدُ للهِ]([1]) نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَصلى الله على سيدنا ومولانا محمد الذي [أدبه الله فأحسن تأديبه]([2])، ووفر من كل خير وكمال على جميع العالمين نصيبه، وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الهادين والمهتدين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد :
فقد وقفت على سؤالكم وتأملت من جميع فصوله، وأحطت خبرا إن شاء الله- تعالى- بلفظه ومدلوله، وهممت أن لا أجيبكم عنه بحرف واحد، لما أعلم من تصميم أكثر العامة على العناد فيما اعتقدوه من الباطل، وسكوت أكثر الخاصة عن التصريح بالإنكار عليهم، والإرشاد لهم، وتهافت بعض الطلبة القاصرين، على تسويد صحفهم وصحائفهم بشبهات يسمونها بأفواههم دلائل وأجوبة عن متبوعيهم من الجاهلين،[يحشونها]([3]) بالأحاديث الضعيفة والموضوعة والتأويلات الباطلة الممنوعة، والروايات المدخولة عمن ليس قوله حجة على الناس في الدِّين وإنما غايته إذا ثبت عنه ذلك وحسن به الظن أن يؤول على وجه صحيح يقبله الشرع. ثم يردون بمثل هذا على الآيات البينة والأحاديث الثابتة وعمل السلف الصالح المشهود لهم بالخيرة على لسان المعصوم. أفمع هؤلاء ينفع الكلام أو يحسن الجواب. لكنني تذكرت ما جاء في وعيد الكاتبين، وفي وعد من بذل الجهد في نصح إخوانه المسلمين، ورجوت أن لا أعدم أنصارا على الحق، وإخوانا متكاتفين في نصرة الدين، من عدول حملة العلم الذين ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، فاستخرت الله- تعالى- وحررت لكم هذا الجواب في مقدمة وأربعة فصول وخاتمة، غير قاصد- علم الله- شخص أحد [بالنقص]([4])، ولا خارج بعون الله- تعالى- عن جادة الفهم من دلالة الظاهر والنص، والله أسأل أن ينفع به المسترشدين ويهدي به في المعاندين ويفت به أعضاء المفسدين آمين.
المقدمة
في وجوب الأدب مع النبي- صلى الله عليه وسلم- إجماعا وأبدا وعلى كل حال
أجمع علماء الملة من جميع الفرق على وجوب الأدب مع النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- حيا وميتا كما يجب الإيمان به حيا وميتا للنصوص القطعية في ذلك كقوله تعالى: ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا* لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ ﴾ الآية[الفتح:8-9]. وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾[الحجرات:1] وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ ﴾ الآية[الحجرات:2]. وعلى هذا كانت سيرة السلف الصالح معه- عليه الصلاة والسلام- في الحياة وبعد الممات. روى الترمذي عن أنس- رضي الله تعالى عنه- : ( كَانَ يَخْرُجُ عَلَى أَصْحَابِهِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ، وَهُمْ جُلُوسٌ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - فَلَا يَرْفَعُ أَحَدٌ مِنْهُمْ بَصَرَهُ إِلَيْهِ إِلَّا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ ، فَإِنَّهُمَا كَانَا يَنْظُرَانِ إِلَيْهِ وَيَنْظُرُ إِلَيْهِمَا وَيَتَبَسَّمَانِ إِلَيْهِ وَيَتَبَسَّمُ إِلَيْهِمَا)([5]) وجاء من غير وجه أن أصحابه كانوا حوله كأنما على رؤوسهم الطير([6]) حتى كانوا من تعظيمه وتوقيره يهابونه فلا يسألونه فيحبون أن يأتي الأعرابي الجاهل فيسأله([7])، ولما ناظر أبو جعفر المنصور مالكا في المسجد النبوي ورفع صوته، قال له مالك: لا ترفع صوتك في هذا المسجد فإن الله تعالى أدب قوماً فقال: ﴿لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ ﴾ [الحجرات:2]. ومدح قوما فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ﴾ [الحجرات:3]. وذم قوما فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ [الحجرات:4] وأن حرمته ميتاً كحرمته حياً. فاستكان لهما أبو جعفر ([8]) وقد كَانَ مَالِكٌ - رحمه الله تعالى - إذَا ذُكِرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَغَيَّرُ لَوْنُهُ وَيَنْحَنِي حَتَّى يَصْعُبَ ذَلِكَ عَلَى جُلَسَائِهِ([9])، وَكَانَ جَعْفَرٌ الصَادِقُ كَثِيرَ الدُّعَابَةِ ، وَالتَّبَسُّمِ ، وإِذَا ذُكِرَ عِنْدَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – اصْفَرَّ([10]).
والواقف على سير السلف الماضيين والعلماء المتقدمين يجد فيها كثيرا من هذا في مراعاة حرمته- صلى الله عليه وآله وسلم- وشدة التأدب مع جنابه الشريف، ومن أكثر الناس محافظة على الأدب وتحريضا عليه و وصاية به شيوخ الزهد والعلم من أئمة التصوف العارفين([11]) كرجال الرسالة القشيرية([12]) الذين أبقى الله بعظيم فضله على الإسلام وجميل صنعه لنصرة الدين كلامهم حجة على كل من ينتسب إلى طريقتهم في مثل هاته الأزمان، قال في الرسالة عن عبد الله بن المبارك([13]): (نَحْنُ إِلَى كَثِيرٍ مِنَ الأَدَبِ أَحْوَجُ مِنَّا إِلَى كَثِيرٍ مِنَ العِلْمِ )([14])، وعن أبي علي الدقاق ([15]): (مَنْ صَاحَبَ الْمُلُوكَ بِغَيْرِ أَدَبٍ أَسْلَمَهُ الْجَهْلُ إِلَى الْقَتْلِ)([16]) ، وقال أبو حفص الحداد([17]): (التّصوُّفُ كلّه آدابٌ، لكلّ وقتٍ آدابٌ، ولكلِّ حالٍ آدابٌ، ولكلّ مقامٍ آدابٌ، فَمَنْ لَزمَ الأدبَ بلغَ مَبلغَ الرّجالِ، وَمَنْ حُرمَ الأَدَبَ فهو بعيدٌ من حيث يَظنُّ القُربَ، مَردودٌ مِنْ حَيْثُ يَرْجُو [الوِصَالَ]([18]))([19])، وقال : (حُسْنُ الأَدَبِ فِي الظَّاهِرِ عُنْوَانُ حُسْنِ الأَدَبِ فِي البَاطِن)([20])
-يتبع-
======
[1] : في الأصل : ( الحمد الله ).
[2] : حديث : (أدَّبني ربي فأحسن تأديبي) حديث ضعيف . قال الألباني رحمه الله في السلسلة الضعيفة : (1/173) : [قال ابن تيمية في مجموع الرسائل الكبرى (2/336) : ( معناه صحيح ، و لكن لا يعرف له إسناد ثابت).و أيده السخاوي والسيوطي ، فراجع (كشف الخفاء) (1/70)]. انتهى كلامه رحمه الله.
[3] : في الأصل: (يخشونها).
[4] : في الأصل: ( بالتقص) .
[5] : سنن الترمذي : أبواب المناقب : باب في مناقب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما كليهما ، حديث رقم (3668) ، و قال :( هذا حديث غريب ، لا نعرفه إلا من حديث الحكم بن عطية ، و قد تكلم بعضهم في الحكم بن عطية) إنتهى كلامه. و هذا الحديث، حديث: ضعيف . أنظر : ضعيف سنن الترمذي للألباني (ص:417) حديث رقم (3668) ، و انظر المشكاة (6053).
و الحكم بن عطية العيشيُّ ، بالتحتانية و المعجمة ، البصريُّ ، قال الحافظ في التقريب (ص:198)ط.الرسالة: (صدوق له أوهام) ، و قال ابن حبان في المجروحين (1/301) بتحقيق حمدي عبد المجيد السلفي : (يَرْوِي عن ثابت وابن سيرين ، روى عَنْهُ أَبُو دَاوُد الطيالسي ، وجماعة ، كَانَ أَبُو الْوَلِيد شديد الحمل عَلَيْهِ ويضعفه جدا ، وَكَانَ الحكم مِمَّن لا يدري مَا يحدث فربما وَهم فِي الْخَبَر ، يجيء كَأَنَّهُ موضوع ، فاستحق الترك)، و قال الذهبي في الميزان (1/529) ط. الرسالة العالمية : (وثقه ابن معين، وضعفه أبو الوليد، وقال النسائي: ليس بالقوى. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه، ولا يحتج به . انفرد عن ثابت بحديث ابتسام أبى بكر وعمر إليه وهو إليهما. وقال أحمد: لا بأس به، لكن أبو داود روى عنه مناكير).
[6] : قطعة من حديث أخرجه أبو داود في سننه : كتاب الطب : باب الرجل يتداوى ، حديث رقم (3855) ، قال : (حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ النَّمَرِيُّ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ زِيَادِ بْنِ عِلاَقَةَ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ، قَالَ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ كَأَنَّمَا عَلَى رُءُوسِهِمُ الطَّيْرُ فَسَلَّمْتُ ثُمَّ قَعَدْتُ فَجَاءَ الأَعْرَابُ مِنْ هَا هُنَا وَهَا هُنَا فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَتَدَاوَى فَقَالَ : تَدَاوَوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلاَّ وَضَعَ لَهُ دَوَاءً غَيْرَ دَاءٍ وَاحِدٍ الْهَرَمُ ) ، و إسناده صحيح ، و عند ابن ماجة في كتاب الجنائز برقم (1549) عن البراء بن عازب قال : (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فانتهينا إلى القبر وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ، كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِنَا الطَّيْرَ).
[7] : في الحقيقة نهى النبي صلى الله عليه و سلم أصحابه رضوان الله عليهم عن سؤاله كما في الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه : كتاب الإيمان : باب السؤال عن أركان الإسلام ، حديث رقم (12) ، قال : (حدثني عمرو بن محمد بن بكير الناقد حدثنا هاشم بن القاسم أبو النضر حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس بن مالك قال نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع فجاء رجل من أهل البادية فقال يا محمد أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك قال صدق قال فمن خلق السماء قال الله قال فمن خلق الأرض قال الله قال فمن نصب هذه الجبال وجعل فيها ما جعل قال الله قال فبالذي خلق السماء وخلق الأرض ونصب هذه الجبال آلله أرسلك قال نعم قال وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا قال صدق قال فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا قال نعم قال وزعم رسولك أن علينا زكاة في أموالنا قال صدق قال فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا قال نعم قال وزعم رسولك أن علينا صوم شهر رمضان في سنتنا قال صدق قال فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا قال نعم قال وزعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلا قال صدق قال ثم ولى قال والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن ولا أنقص منهن فقال النبي صلى الله عليه وسلم لئن صدق ليدخلن الجنة).
قال النووي رحمه الله تعالى : ( قوله : ( نهينا أن نسأل ) يعني سؤال ما لا ضرورة إليه كما قدمنا بيانه قريبا في الحديث الآخر : سلوني أي تحتاجون إليه .
وقوله : ( الرجل من أهل البادية ) يعني من لم يكن بلغه النهي عن السؤال .
وقوله : ( العاقل ) كونه أعرف بكيفية السؤال وآدابه والمهم منه ، وحسن المراجعة ؛ فإن هذه أسباب عظم الانتفاع بالجواب ، ولأن أهل البادية هم الأعراب ، ويغلب فيهم الجهل والجفاء . ولهذا جاء في الحديث ( من بدا جفا ) والبادية والبدو بمعنى وهو ما عدا الحاضرة والعمران ، والنسبة إليها بدوي ، والبداوة الإقامة بالبادية وهي بكسر الباء عند جمهور أهل اللغة وقال أبو زيد : هي بفتح الباء قال ثعلب : لا أعرف البداوة بالفتح إلا عن أبي زيد). شرح النووي على مسلم (1/169).
[8] : القصة ذكرها القاضي عياض في الشفا (595/2-596) طبعة دار الكتاب العربي ، و قد بين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بطلان هذه القصة سندا ومتنا، كما بين رحمه الله تعالى مذهب الإمام مالك في التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقال رحمه الله : (فَهَذَا كُلُّهُ نَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ مِنْ كُتُبِ أَصْحَابِ مَالِكٍ الْمَعْرُوفَةِ ثُمَّ ذَكَرَ حِكَايَةً بِإِسْنَادِ غَرِيبٍ مُنْقَطِعٍ رَوَاهَا عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ إجَازَةً، قالوا : حدثنا أبو العباس أحمد بن عمر بن دِلهات ؛ قال : حدثنا أبو الحسن علي بن فِهر ، حدثنا أبو بكر محمد بن الفرج ، حدثنا أبو الحسن بن المُنتاب ، حدثنا يعقوب بن إسحاق بن أبي إسرائيل ، حدثنا ابن حميد قال: ناظر أبو جعفر ـ أمير المؤمنين ـ مالكاً في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له مالك: يا أمير المؤمنين، لا ترفع صوتك في هذا المسجد، فإن الله أدب قوماً فقال: ﴿لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ﴾[الحجرات: 2].
ومدح قوماً فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﴾[الحجرات: 3].
وذم قوماً فقال: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ ﴾ [الحجرات: 4].
وإن حرمته ميتاً كحرمته حياً، فاستكان لها أبو جعفر، فقال: يا أبا عبد الله، أستقْبِلُ القبلة وأدعو؟ أم أستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى يوم القيامة؟ بل استقبله واستشفع به فيشفعك اللّه، قال اللّه تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا﴾ [النساء: 64].
قلت: وَهَذِهِ الْحِكَايَةُ مُنْقَطِعَةٌ ؛ فَإِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ حميد الرَّازِيَّ لَمْ يُدْرِكْ مَالِكًا ، لَا سِيَّمَا فِي زَمَنِ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ ، فَإِنَّ أَبَا جَعْفَرٍ تُوُفِّيَ بِمَكَّةَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ ، وَتُوُفِّيَ مَالِكٌ سَنَةَ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ . وَتُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ حميد الرازي سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ بَلَدِهِ حِينَ رَحَلَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ إلَّا وَهُوَ كَبِيرٌ مَعَ أَبِيهِ ، وَهُوَ مَعَ هَذَا ضَعِيفٌ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْحَدِيثِ ، كَذَّبَهُ أَبُو زُرْعَةَ ، وَابْنُ وارة ، وَقَالَ صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدٍ الأسدي : مَا رَأَيْت أَحَدًا أَجْرَأَ عَلَى اللَّهِ مِنْهُ وَأَحْذَقَ بِالْكَذِبِ مِنْهُ . وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ شَبِيبَةَ : كَثِيرُ الْمَنَاكِيرِ . وَقَالَ النسائي : لَيْسَ بِثِقَةِ . وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ : يَنْفَرِدُ عَنْ الثِّقَاتِ بِالْمَقْلُوبَاتِ . وَآخِرُ مَنْ رَوَى الْمُوَطَّأَ عَنْ مَالِكٍ هُوَ أَبُو مُصْعَبٍ وَتُوُفِّيَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ . وَآخِرُ مَنْ رَوَى عَنْ مَالِكٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ هُوَ أَبُو حُذَيْفَةَ أَحْمَدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ السَّهْمِيُّ تُوُفِّيَ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ ، وَفِي الْإِسْنَادِ أَيْضًا مَنْ لَا تُعْرَفُ حَالُهُ، وَهَذِهِ الْحِكَايَةُ لَمْ يَذْكُرْهَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ الْمَعْرُوفِينَ بِالْأَخْذِ عَنْهُ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ حميد ضَعِيفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ إذَا أَسْنَدَ ، فَكَيْفَ إذَا أَرْسَلَ حِكَايَةً لَا تُعْرَفُ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ ؟ هَذَا إنْ ثَبَتَ عَنْهُ ، وَأَصْحَابُ مَالِكٍ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ بِمِثْلِ هَذَا النَّقْلِ لَا يَثْبُتُ عَنْ مَالِكٍ قَوْلٌ لَهُ فِي مَسْأَلَةٍ فِي الْفِقْهِ ؛ بَلْ إذَا رَوَى عَنْهُ الشَّامِيُّونَ كَالْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ ، وَمَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ الطاطري ضَعَّفُوا رِوَايَةَ هَؤُلَاءِ ، وَإِنَّمَا يَعْتَمِدُونَ عَلَى رِوَايَةِ الْمَدَنِيِّينَ وَالْمِصْرِيِّينَ فَكَيْفَ بِحِكَايَةِ تُنَاقِضُ مَذْهَبَهُ الْمَعْرُوفَ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ رَوَاهَا وَاحِدٌ مِنْ الْخُراسانِيِّينَ لَمْ يُدْرِكْهُ وَهُوَ ضَعِيفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ !) أنظر : قاعدة جليلة في الوسيلة و التوسل لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بتحقيق عبد الفادر الأرنؤوط (ص:111-113).
[9] : انظر الشفا للقاضي عياض (2/597) طبعة دار الكتاب العربي ، و انظر : تذكرة السامع والمتكلم بآداب العالم والمتعلم لابن جماعة الشافعي (ص:52) طبعة دار البشائر الإسلامية.
[10] : المصدر السابق.
[11] : قد كان أوائل الصوفية ملتزمين بالكتاب والسنّة، غير أنّ كثيرًا منهم حادوا عن الطريق السوي وغلوا في البدع والمنكرات والانحرافات في الفكر والسلوك.[انظر: تلبيس إبليس لابن الجوزي (ص:211 وما بعدها)، مجموع الفتاوى لابن تيمية (11/18) ، مدارج السالكين لابن القيم: (1/138)] بواسطة الإعلام بمنثور تراجم المشاهير و الأعلام للشيخ الفاضل محمد علي فركوس حفظه الله (ص:190) عند ترجمة الشيخ ابن باديس.
[12] : الرسالة القشيرية من تأليف أبي القاسم عبد الكريم ابن هوازن بن عبد الملك بن طلحة بني محمد القشيري النيسابوري الفقيه الشافعي (376هـ - 465 هـ) كتبها عن الصوفية سنة (437 هـ) و قد تعقب عليها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعقبات كثيرة في عدة مواضع منها كما في كتابه الاستقامة (1/89) ، حيث قال : (ما ذكره أبو القاسم في رسالته من اعتقادهم وأخلاقهم وطريقتهم فيه من الخير والحق والدين أشياء كثيرة، ولكن فيه نقص عن طريقة أكثر أولياء الله الكاملين، وهم نقاوة القرون الثلاثة، ومن سلك سبيلهم، ولم يذكر في كتابه أئمة المشايخ من القرون الثلاثة، ومع ما في كتابه من الفوائد في المقولات والمنقولات ففيه أحاديث وأحاديث ضعيفة، بل باطلة، وفيه كلمات مجملة، تحتمل الحق والباطل رواية ورأيا، وفيه كلمات باطلة في الرأي والرواية، وقد جعل الله لكل شيء قدرا). إهـ
[13] : هو الإمام العلامة شيخ الإسلام، عالم زمانه، أبو عبد الرحمن الحنظلي ، مولاهم التركي ، ثم المروزي ، الحافظ ، الغازي ، كانت أمه خوارزمية، و كان مولده في سنة ثمان عشرة ومائة، طلب العلم وهو ابن عشرين سنة.
[14] : الرسالة القشيرية (ص: 474).
[15] : أَبُو عَليّ الدقاق النَّيْسَابُورِي شيخ أبي الْقسم الْقشيرِي رَحمَه اللَّه تعلم الْعَرَبيَّة وَحصل علم الْأُصُول وَخرج إِلَى مرو وتفقه بهَا ودرس على الخضري وَأعَاد على الشَّيْخ أبي بكر الْقفال المرزوي فِي درس الخضري وبرع فِيهِ وَلما اسْتمع مَا كَانَ يحْتَاج إِلَيْهِ من الْعُلُوم أَخذ فِي الْعَمَل وسلك طَرِيق التصوف وَصَحب الْأُسْتَاذ أَبَا الْقسم النَّصْر آباذي وَتُوفِّي فِي ذِي الْحجَّة سنة خمس وأربعماية.[باختصار من تبيين كذب المفتري].
[16] : الرسالة القشيرية (ص: 473)
[17] : أبو حفص النيسابوري الزاهد شيخ خرسان ، قال السلمي : أبو حفصٍ كان حدادًا، و هو أول من أظهر طريقة التصوف بنيسابور. أنظر ترجمته في السير للذهبي (12/510-511).
[18] : كذا في الأصل و في طبقات الصوفية للسلمي ( يرجو القبول).
[19] : طبقات الصوفية (ص: 106) طبعة دار الكتب العلمية.
[20] : الرسالة القشيرية (ص: 474).
التعديل الأخير تم بواسطة بلال بريغت ; 26 Nov 2013 الساعة 02:07 AM
|